فصل: ولاية القضاء الثانية بمصر.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.ولاية القضاء الثانية بمصر.

ما زلت منذ العزل عن القضاء الأول سنة سبع وثمانين وسبعمائة مكبا على الاشتغال بالعلم تأليفا وتدريسا والسلطان يولي في الوظيفة من يراه أهلا متى دعاه إلى ذلك داع من موت القائم بالوظيفة أو عزله وكان يراني الأولى بذلك لولا وجود الذين شغبوا من قبل في شأني من أمراء دولته وكبار حاشيته حتى انقرضوا واتفقت وفاة قاضي المالكية إذ ذاك ناصر الدين بن التنسي وكنت مقيما بالفيوم لضم زرعي هنالك فبعث عني وقلدني وظيفة القضاء في منتصف رمضان من سنة إحدى وثمانمائة فجريت على السنن المعروف مني من القيام بما يجب للوظيفة شرعا وعادة وكان رحمه الله يرضى بما يسمع عني في ذلك ثم أدركته الوفاة في منتصف شوال بعدها وأحضر الخليفة والقضاة والأمراء وعهد إلى كبير أبنائه فرج ولأخوته من بعده واحدا واحدا وأشهدهم على وصيته بما أراد وجعل القائم بأمر ابنه في سلطانه إلى أتابكه ايتمش وقضى رحمة الله عليه وترتبت الأمور من بعده كما عهد لهم وكان النائب بالشام يومئذ أمير من خاسكية السلطان يعرف بتنم وسمع بالواقعات بعد السلطان فنص أن لم يكن هو كافل ابن الظاهر بعده ويكون زمام الدولة بيده وطفق سماسرة الفتن يغرونه بذلك وبينما هم في ذلك إذ وقعت فتنة الأتابك أتيمش وذلك أنه كان للأتابك دوادار غر يتطاول إلى الرئاسة ويترفع على أكابر الدولة بحظه من أستاذه وما له من الكفالة على السلطان فنقموا حالهم مع هذا الدوادار وما يسومهم به من الترفع عليهم والتعرض لإهمال نصائحهم فأغروا السلطان بالخروج من ربقه الحجر وأطاعهم في ذلك وأحضر القضاة بمجلسه للدعوى على الأتابك باستغنائه عن الكافل بما علم من قيامه بأمره وحسن تصرفاته وشهد بذلك في المجلس أمراء أبيه كافة وأهل المراتب والوظائف منهم شهادة قبلها القضاة وأعذروا إلى الأتابك فيهم فلم يدفع في شيء من شهادتهم ونفذ الحكم يومئذ برع الحجر عن السلطان في تصرفاته وسياسة ملكه وانفض الجمع ونزل الأتابك من الإسطبل إلى بيت سكناه ثم عاود الكثير من الأمراء نظرهم فيما أتوه من ذلك فلم يروه صوابا وحملوا الأتابك على نقضه والقيام بما جعل له السلطان من كفالة ابنه في سلطانه وركب وركبوا معه في أخر شهر المولد النبوي وقاتلهم أولياء السلطان فرج عشي يومهم وليلتها فهزموهم وساروا إلى الشام مستصرخين بالنائب تنم وقد وقر في نفسه ما وقر من قبل فبر وفادتهم وأجاب صريخهم واعتزموا على المضي إلى مصر وكان السلطان لما انفضت جموع الأتابك وسار إلى الشام اعتمله في الحركة والسفر لخضد شوكتهم وتفريق جماعتهم وخرج في جمادى حتى انتهى إلى غزة فجاءه الخبر بأن نائب الشام تنم والأتابك والأمراء الذين معه خرجوا من الشام زاحفين للقاء السلطان وقد احتشدوا وأوعبوا وانتهوا قريبا من الرملة فراسلهم السلطان مع قاضي القضاة الشافعي صدر الدين المناوي وناصر الدين الرماخ أحد المعلمين لثقافة الرماحم يعذر إليهم ويحملهم على اجتماع الكلمة وترك الفتنة وإجابتهم إلى ما يطلبون من مصالحهم فاشتطوا في المطالب وصمموا على ما هم فيه ووصل الرسولان في بخبرهم فركب السلطان من الغد وعبى عساكره وصمم لمعاجلتهم فلقيهم أثناء طريقه وهاجمهم فهاجموه ثم ولوا الأدبار منهزمين وصرع الكثير من أعيانهم وأمرائهم في صدر موكبه فما غشيهم الليل إلا وهم مصفدون في الحديد يقدمهم الأمير تنم نائب الشام وأكابرهم كلهم ونجا الأتابك أيتمش إلى القلعة بدمشق فآوى إليها واعتقله نائب القلعة وسار السلطان إلى دمشق فدخلها على التعبئة في يوم أغر وأقام بها أياما وقتل هؤلاء الأمراء المعتقلين وكبيرهم الأتابك ذبحا وقتل تنم من بينهم خنقا ثم ارتحل راجعا إلى مصر.
وكنت استأذنت في التقدم إلى مصر بين يدي السلطان لزيارة بيت المقدس فأذن لي في ذلك ووصلت إلى القدس ودخلت المسجد وتبركت بزيارته والصلاة فيه وتعففت عن الدخول إلى القمامة لما فيها من الإشادة بتكذيب القرآن إذ هو بناء أمم النصرانية على مكان الصليب بزعمهم فنكرته نفسي ونكرت الدخول إليه وقضيت من سنن الزيارة ونافلتها ما يجب وانصرفت إلى مدفن الخليل عليه السلام ومررت في طريقي إليه ببيت لحم وهو بناء عظيم على موضع ميلاد المسيح شيدت القياصرة عليه بناء بسماطين من العمد الصخور منجدة مصطفة مرقوما على رؤوسها صور ملوك القياصرة وتواريخ دولهم ميسرة لمن يبتغي تحقيق نقلها بالتراجمة العارفين لأوضاعها ولقد يشهد هذا المصنع بعظم ملك القياصرة وضخامة دولتهم ثم ارتحلت من مدفن الخليل إلى غزة وارتحلت منها فوافيت السلطان بظاهر مصر ودخلت في ركابه أواخر شهر رمضان سنة اثنين وثمانمائة وكان بمصر فقيه من المالكية يعرف بنور الدين بن الخلال ينوب أكثر أوقاته عن قضاة القضاة المالكية فحرضه بعض أصحابه على السعي في المنصب وبذل ما تيسر من موجوده لبعض بطانة السلطان الساعين له في ذلك فتمت سعايته في ذلك ولبس منتصف المحرم سنة ثلاث وثمانمائة ورجعت أنا للإشتغال بما كنت مشتغلا به من تدريس العلم وتأليفه إلى أن كان السفر لمدافعة تمر عن الشام.